الرئيسية - ثقافة وفن - الجوف.. شواهد الحضارات تغادر موطنها
الجوف.. شواهد الحضارات تغادر موطنها
الساعة 10:14 صباحاً (سبتمبر نت/ تقرير – أحمد عفيف)

هل تعرفون ماذا يعني تهريب قطع أثرية عليها نقوش لكل تاريخ مملكة ومدينة «نشان» والتي تعود إلى القرن الثامن والتاسع والعاشر قبل الميلاد؟ يتساءل ناشط في التراث الثقافي، ويردف تساؤله هذا بالقول متحسرا (منذ أن وصلتني معلومات نهب وتهريب وسرقة هذا التاريخ وأنا في توجع وألم دائمين ومصاب بالقهر)، ربما لا يعي الكثير منا ما وعاه هذا الناشط الغيور على حضارة بلده، والمثمن لمقتنيات تراثه الثقافي، فكيف إذا تعلق الأمر بنشان بتشديد الشين أقدم الحضارات اليمنية على الإطلاق إن لم تكن أقدم حضارات الشرق الأدنى وأعظمها، وأولها إلهاما للمدنية والبناء الحضري وتنظيم الشؤون العامة في التجمعات الحضرية التي لم تشهدها المنطقة من قبل.

 

لمملكة نشان التي ظهرت في محافظة الجوف اليمنية قيمة حضارية فريدة تمتاز بها هي قيمة السبق الحضاري في جوانب الحياة الحضرية بكافة تفاصيلها من شؤون الحكم وإدارة شؤون العامة، وتنظيم أمور العبادة والمناسك والتجارة والاستثمار والشؤون الاجتماعية والتعليم، والتخطيط الحضري والزراعي وفقا لقيم ما نسميها اليوم بالتنمية المستدامة.

 

ويمكن أن نعتبر الحضارات اليمنية التي تلت حضارة نشان وهي حضارات سبأ وحمير ومعين وغيرها ما هي إلا نسخ مطورة من حضارة «نشان» ذات السبق الحضاري المتفرد، فهي حضارة ضاربة لا يعرف المؤرخون نشأتها الأولى، غير أن بعض النقوش أشارت إليها في القرن الثامن والتاسع والعاشر قبل الميلاد كحضارة قائمة في قمة أوجها الحضاري وقمة ريادتها في العمارة والبناء والتجارة، ومن المؤكد أن نشأتها سبقت ذلك بكثير من الحقب والأزمان.

 

مهد الحضارات

 

لن نكون من المبالغين إذا ما أسمينا محافظة الجوف اليمنية بمهد الحضارات، ففيها من الأعيان الثقافية ومقتنيات التراث والآثار وأنقاض الممالك والمدن ما لا يستطاع حصره وإدراكه والإلمام به، وما تكتنزه الرمال أضعاف ما برز على الأرض، فإلى جانب الحضارات والممالك التي لانزال نجهلها تعاقبت عليها حضارات نشان ومعين وسبأ وحمير وحضارات أخرى تركت فيها أثرا ثقافيا وحضاريا بشكل من الأشكال.

 

ولأجل هذا التفرد والتنوع الحضاري فإن أولى أولويات الراهن الثقافي تكمن في حشد الجهود والموارد الرسمية والشعبية والنخبوية لحماية الهوية الحضارية في محافظة الجوف من أيادي العبث والتجريف ولصوص الحضارات الذين أمعنوا في طمس هذه المعالم وتهريبها والمتاجرة بها بشكل قصدي ممنهج كعصابات منظمة، وبشكل فردي من الذين لا يمتلكون وعيا كافيا بأهمية التراث الثقافي.

 

من هي «نشان»؟

 

ما يعرفه المؤرخون والباحثون في شؤون التراث عن مملكة نشان هو أنها مملكة يمنية قديمة مستقلة إلى القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد بعدها خضعت لسيطرة ثلاث ممالك يمنية، وهي المملكة القديمة ومملكة سبأ ومملكة معين.

 

وتقع مملكة «نشان» فيما يعرف حاليا بمديرية المصلوب في محافظة الجوف على بعد 100 كيلو متر إلى الشمال والشمال الشرقي من صنعاء، ويسمى موقعها الأثري غير المسكون حاليا الخربة السوداء، ويسيطر على السهل المجاور لموقعها على الضفة اليسرى من وادي الخارد المسمى محليا بالبحيرة، وطول سورها القديم حوالي 1200 متر ويرسم مستطيلا طول ضلعه 330كم و280متراً، وبالنسبة للآثار المشاهدة حاليا داخل المدينة فهي عبارة عن قواعد حجرية كبيرة لجهاز منتظم وأعمدة وعوارض مرتكزة على أعمدة تخص أروقة وكل قاعدة حجرية ركنا لقصر قديم شيد من الخشب والطين غير المحرق الذي لم يبق منه سوى واحد بعد أن أدى حريق إلى التهام الطوب، وعلى بعد 720 مترا إلى الشرق من مدينة نشان يوجد معبد الإله المحلي عثتر ذور يحاف، حافظت على سلامته الرمال التي غطته إلى حد كبير وقد قام فريق فرنسي بالتنقيب عنه جزئيا خلال الأعوام 1088-1989م، وما يشد الانتباه في المعبد نوعية عمارته وزخرفته المحفورة على دعامات وعلى عارضة باب المدخل، وكذلك على أركان أحادية الحجر تدعم الغطاء الحجري، وتتكون الأشكال الرئيسية لهذا الديكور من فتيات واقفات على منصة يسميها سكان الجوف بنات عاد نسبة إلى قبيلة عاد المشتهرة قديما في شبه الجزيرة العربية، بالإضافة إلى وعال ونعامات وثعابين متشابكة ورؤوس ثيران وأشكال هندسية، وقد سمحت النقوش ذات الطراز الأقدم من خلال تحليل كربون الخشب الذي عثر عليه في جدار السور بتحديد تاريخ الجدار الأقدم من هذا المعبد الذي يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد.

 

هذه المعلومات التي تم سردها عن مملكة نشان كل ما يعرفه المؤرخون والباحثون عن «نشان» أقدم حضارة يمنية، بالإضافة إلى معلومات شحيحة أخرى تتعلق بأسماء المعابد ومواقع سيطرة المملكة والحضارات التي بسطت وصايتها على المملكة، وهو أمر معيب بحق المختصين في جانب التاريخ والتراث بالنظر إلى حضارة هي الأولى في المنطقة وصاحبة الزمام الحضارية، ويمكننا أن نتساءل هنا عن كيف نعرف المزيد عن هذه الحضارة؟ لتكون الإجابة بطبيعة الحال في مجموعة النقوش المسندية التي تم سرقتها وتهريبها من مواقع مملكة نشان والتي تم تجريفها بشكل مخيف.

 

تجريف منظم

 

تحدث الناشط في التراث الثقافي عبد الهادي العصار لـ”26 سبتمبر” عن حالة التجريف التي طالت مواقع «نشان»، وهو المشار إليه في بداية التقرير بصفة الناشط ويشغل حاليا مدير عام مكتب حقوق الإنسان بمحافظة الجوف، يقول عبد الهادي: (كشفت المعلومات عن سرقة 500 قطعة أثرية، بالإضافة إلى 100 لوحة خشبية منقوش عليها، وحوالي 70 لوحة شواهد، و100 قطعة فخارية، كل هذه المقتنيات نقلت من مدينة السوداء وبعض المواقع الأثرية عبر شخص بلجيكي الجنسية من أصل سوري يدعى منير عربش ورفيقه ريمي أدوان كانا يعملان ضمن البعثة الفرنسية في اليمن )، يضيف عبد الهادي (أفادت المعلومات بأن الشخصين نقلوها من الجوف تحت مبرر الحفاظ عليها وتسليمها لمتحف صنعاء)، يضيف أيضا: (تم تهريب عمودين أثريين مهمين من معبد مدينة السوداء، ونقل عرش حجري يؤرخ للقرن الثالث قبل الميلاد التي شهدته المدينة وتم بيعه لتاجر سويسري تكفل بتهريبه وعرض بعدها في متحف اللوفر للبيع بمبلغ مليون يورو، كما قام شخص آخر يحمل جنسية عربية بشراء عرشين عليها نقوش مهمة بمبلغ 15 مليون ريال يمني من سماسرة يمنيين).

 

وعن بقية آثار الجوف يقول العصار (تتعرض مدينة معين لعملية تدمير واسعة ونهب طال القطع الأثرية والنقوش، وهو الحال ذاته في باقي المدن والمواقع الأثرية في المحافظة خصوصا في وادي الجوف، فقد تعرضت للنبش والسرقة والنهب من قبل شبكة تدير تجارة الآثار من ضمنهم شخص يحمل الجنسية الأردنية يدعى سمير جاد، بالإضافة إلى أشخاص يحملون الجنسيات العراقية والسورية وسماسرة محليين بتسهيل من جهات رسمية في النظام السابق وبعض البعثات الأجنبية التي كانت تعمل في مجال الآثار باليمن.

 

تراث سائب

 

لم تحظ المواقع الأثرية التابعة لمحافظة الجوف بالاهتمام والعناية والحماية التي تستحقها، فكل المواقع الأثرية دون استثناء تقع في أماكن عامة لم يتم تسويرها أو تنصيب الحماية الأمنية عليها، ما يجعلها معرضة للنهب والسلب والتنقيب الحر والمصادرة والعبث، وهو ما يمارسه الأهالي يوميا بشكل غير مقصود غير مدركين لأهميتها التاريخية وقيمتها الحضارية، وقد لوحظ اعتياد المواطنين على اقتناء أحجار منقوشة وتماثيل من المواقع الأثرية ليتم استخدامها في بناء المساكن كإجراء من إجراءات الزينة المستخدمة في تحسين مظاهر الأبنية الحديثة، ويتحمل وزر ذلك كل من وزارة الثقافة والسلطات الملحية، فمن المتوجب عليهما كأولوية بناء متحف لصون المقتنيات الأثرية للمحافظة، وتسوير المواقع الأثرية مع توفير الحماية اللازمة لها وتعميم تجريم التنقيب العشوائي تمهيدا لتوعية السكان بأهمية وقيمة التراث الثقافي، وما لم يتم اتخاذ هذه الإجراءات الأولية فإن السلطات المحلية والسلطات المعنية مشاركة في استمرار هذا الجرم، وهو ما أكده العصار في حديثه للصحيفة ويؤكده الكثير من المراقبين فقد خلص حديثهم إلى أن السلطات المحلية لا ينبغي لها بأي حال من الأحوال ومهما شحت الإمكانات أن تقف موقف المتفرج، وعليها في أقل الأحوال إنقاذ ما يمكن إنقاذه من آلة التجريف المتسارعة يوما بعد يوم، والتي مثلت لها ظروف الحرب بيئة ملائمة لاستمرار التجريف والتنقيب العشوائي والمتاجرة.

 

مورد مهدر

 

من منظمة «نشان» العاملة في مجال التراث الثقافي يقول طارق سعيد متحدثا ل26 سبتمبر عن التراث من زاوية أخرى: ( الكثير من آثار الجوف لا تزال مطمورة تحت الرمال وفي المدافن الجبلية والأودية، وهي تمثل موردا سياحيا لا مثيل له إذا ما تم التنقيب عليه بشكل علمي وإقامة المنشآت السياحية بالقرب منها )، وعن إمكانية التنقيب العلمي في ظل ظروف الحرب يقول: ( بإمكان السلطات المحلية خلق شراكات مع صناديق ومنظمات معنية بالتراث والآثار، وهي كثيرة ومتواجدة إذا ما تم التنسيق والبحث الجاد عنها، ومن خلالها ستتمكن المحافظة من إيجاد مورد هائل يعود على الخزينة العامة بالكثير من الأموال يتمثل هذا المورد في خلق فرص السياحة والزيارات العلمية والبحثية في المحافظة).

 

ومن المنظمة ذاتها تتحدث هدى محمد قائلة: بأن الحرب أحدثت أضرارا بالغة أثرت على المعالم والمواقع الأثرية في المحافظة ما يجعل هذا المورد الحيوي والقيمة الحضارية مهددا بالتلاشي)، داعية الحكومة إلى التدخل العاجل في هذا الإطار لضمان تقديم خدمات الحماية الأولية بشكل مبدئي.