بقلم: نجلاء القصيص
الطريقُ يبدو مِن بعيدٍ أشبهُ بلسانٍ رماديّ طويلٍ يبتلعُ السياراتِ المارّةِ واحدةً تلوَ الأخرى.
من خلفِ الزجاجِ تنظرُ إلى الحقولِ متراميةَ الأطرافِ، ترى كلَّ شيءٍ مِن حولِها وقدْ غيّرَهُ الزمنُ، ولعبَ لعبتَهُ حتى مع جمالِ الطبيعةِ.
السائقُ ينفثُ دخانَ سيجارتَهُ بطريقةٍ غريبةٍ كأنّما يؤدي دورًا في إعلانٍ تجاريٍّ لشركةٍ ما!.
سنواتٌ مضتْ منذُ غادرتِ القريةَ بصحبةِ والدتَها بعدَ شجارٍ نشبَ فجأةً بين والدَيها، كلّما حاولتِ العودةَ بالذاكرةِ للخلفِ لا تتذكرُ شيئًا سوى صراخَ والدِها، ودموعَ والدتِها، وتجمّعَ الجيرانِ خلفَ نوافذِهِم لمعرفةِ المزيدِ عن المشكلةِ. بقايا صورٍ مشتَّتَةٍ تتصارعُ في داخلِها، تكادُ تنساها.
سألتْ نفسَها: هلْ سيتذكّرها حالَ رؤيتِها؟ .. وهلْ سيرحّبُ بها؟!
ستخبرُهُ أنّها سامحتْهُ على ماضٍ لمْ يكنْ القرارُ فيهِ بـيَدِها، وإلّا لَمَا تركتْ والدتَها تغادرُ إلى تلكَ المدينةُ البعيدة.
ذاتَ مرةٍ أخبرتْها أنّ والدَها كانَ يعملُ عندَ جدِّها، وهوَ كثيرُ التردُّدِ على بيتِهم وشاءَ القدَرُ أنْ يتعلّقَ بها وتتعلّقَ بهِ.
في بدايةِ الأمرِ لمْ يقتنعْ أحدٌ بفكرةِ الارتباطِ ولكنْ في نهايةِ المطافِ رضخَ الجميعُ للواقعِ وتزوّجا.
عادا إلى قريتِهِ البعيدةِ بعدَ أنْ فتحَ لهُ دكانًا صغيرًا هناكَ.
مِنْ بعيدٍ تظهرُ البيوتُ المتلاصقةُ وكأنّها لوحةٌ بديعةٌ رسمتْها ريشةُ فنانٍ ماهرٍ..أخرجتْ هاتفَها وبدأتْ بالتقاطِ بعضِ الصورِ، وخلالَ ذلكَ توقّفتِْ السيارةُ فجأةً!.
فأومأتْ برأسِها من النافذةِ، فإذا بقطيعٍ من الأغنامِ يمرُّ قاطعًا الطريقَ وخلفَهُ مجموعةٌ صبيانٍ يتسابقونَ؛ جذبَها المنظرُ جدًّا، نزلتْ لأخذِ صورٍ أخرى، وبعدَها انطلقتِ السيارةُ مجدَّدًا.
كلّما صارتْ أقربَ من القريةِ شعرتْ بالخوفِ يجتاحَها أكثر، فتغمضُ عينيها محاوِلةً الاسترخاءَ وعدمَ التفكيرِ فيما سيحدثُ.
بعدَ ثلاثِ ساعاتٍ مِن السيرِ وسَطَ منعطفاتِ الجبالِ والأوديةِ وصلتْ إلى مدخلِ القريةِ.
سألتْ أحدَ المارّةِ عن البيتِ، فلم يجبْها أحدٌ، كأنّ الجميعَ لمْ يسمعُوا اسمَ والدِها من قبلُ!.
وحينَ سألتْ مرةً أخرى، أشارَ لها أحدُهُم إلى وسطِ القريةِ. سارتْ وتلكَ الصورُ تتداخلُ في مخيِّلَتِها ولمْ تستطعْ ترتيبَها.
دقاتُ قلبِها تتسارعُ كلّما اقتربتْ مِنْ وجهتِها أكثرَ، ترتجفُ يداها، لا تعرفُ سببًا لذلكَ!.
قرعتِ البابَ عدةَ مراتٍ، فلمْ يردْ عليها أحدٌ. عاودتِ المحاولاتِ بلا يأسٍ.
وخلالَ ذلكَ إذا بنافذةٍ مجاورةٍ تنفتحُ ويتسللُ منها صوتُ عجوزٍ، لقدْ توفيَ صاحبُ البيتِ منذُ شهرينِ ولمْ يكتشفِ الأهالي موتَهُ إلّا بعدَ أسبوعٍ، حينَ بدأتْ تفوحُ رائحةٌ كريهةٌ مِنَ الداخلِ.
لقدْ عاشَ وحيدًا وماتَ وحيدًا.
كلماتُهُم حطّمتْها، صرختْ بآلامٍ مكتومةٍ وهيَ تسقطُ نحوَ الأرضِ بدموعِ وجعِها ثُمّ ما لبثتْ إلّا عائدةً إلى أدراجِها في المدينةِ بذكرياتِها المتزاحمةُ والتي رأتْها طوابيرًا طويلةً مِنَ الحسراتِ.
*قاصة وكاتبة يمنية.
- المقالات
- حوارات
- الأكثر قراءة
- الأكثر تعليقاً