الرئيسية - أدب عربي - قصة قصيرة: عرس الطفولة..!!
قصة قصيرة: عرس الطفولة..!!
الساعة 06:45 مساءاً (الحكمة نت - متابعات خاصة:)

بقلم: زهرة البراري

اسمي مثل عمري زهرة، وهناك زهور متعددة ونسخ ذات اسماء مختلفة مثل صديقاتي «سحر وعبير ورهف وسلسبيل… الخ» من البنات ذوات الترتيب الأبجدي لصفنا الدراسي الذي أحببته اليوم جداً لاننا سنغادره باكراً وقد عزمت ان اشتري «آيسكريم» من منطقة تبعد عن منزلنا وتأخذ وقت اطول في العودة .. رن جرس المدرسة وكأنه يعزف في قلبي لحن الحرية، وما ان تأهب الحارس العتيق وهمّ بفتح بوابة العبور حتى لمح جسدي ينزلق من الباب الصغير فأنا لا استطيع الإنتظار. 

بعد طابور وإزدحام حصلت على مبتغاي وغادرت وانا اتبختر بخفة؛ فحقيبتي اليوم تتراقص خلفي يمنة ويسرة .. افرغت نصف الكتب بالبيت .. ولكن فرحتي لم تدم طويلا بل سرعان ما غادرتني فور اصطدامي بطفلة انهكها التعب وجلست على حافة الرصيف تنتظر اخيها - ربما- يوقف سيارة اجرة .. اصابتني الصدمة والذهول عندما تحدثت: "انتبهي يا بنتي مالش؟!" .. طفلة كبرت تعابير صوتها قبل جسدها .. من ..؟! «صديقتي "حنين " هههه حالية  - كلمة - بنتك اوقفي اشوفك وبعدين ليش تلثمتي عادش صغيرة .. اكيد اخوش هذا الغبي صح؟! 
ماهو هذا ببطنش تخبي عليهم الكورة ما بتبطلي هذي العادة ؟! هههه».

 سحبت ذراعها من يدي واسندت عجزها على يد زوجها كما قالت .. أصبت بصدمة، وتجمدت في مكاني وكأن «الايسكريم» الذي بيدي قد جمد عروقي كيف هذا..؟!! ؛ لا زالت رائحة طفولتها عالقة في انفي ولن اخطئها، هنا مشينا نحو مدرستنا وانا اضع لها زرار وقع منها في حقيبتها كي تعيد خياطته في المساء وهنا مكاننا المفضل في اللعب وازعاج الجيران.

اعتدنا ان نلعب لعبة العروسة والعريس والتي كانت تنهيها بحمل كرة صغيرة ملونها تلدها بالف ضحكة، لكن عروسة اليوم لم تكن مزحة ولم اسمع صراخ امي: «عيب ارجعن الكرة للاولاد واوقفن السخافة وقلة الأدب» .. كيف نبتت حولي هذي الأسوار الشائكة من العادات والتقاليد كيف لم انتبه عندما نضجت طفولة حنين وسلبت من ساحة اللعب ومن بيننا..؟!!

لا اعرف كيف حملت نفسي الى المنزل فرأسي مثقل بذكريات محزنة اصبت بعمى عن متعة الاحلام الوردية والالعاب الساذجة، للشارع عندما اقطعة بجنون وسط صراخ الركاب، لهواية دق الجرس والهروب لأقرب حوش يخفيني عن اصحاب المنازل، للتللذ بطعم مكسرات العيد التي كان يعطيني صاحب البسطة تارة وتارة آكل خلسة عند المفاوضة في السعر، حتى بائع الزبيب ذاك الذي يقف بالزاوية والذي كنت اغادرة منتصرة انه اعطاني من قبضة يده الكبيرة عكس ان اخذت بيدي الصغيرة .. اشعر اني كبرت فجأة فالآلم تتعاظم بداخلي وجسدي منهك لا يقوى على مقاومتها.

إعتقد الكل بأنهم سينعمون بالراحة عندما أكبر اولهم جارنا السيئ الذي يزعجنا بصراخه المستمر على زوجته الارنبه - كما نسميها - وسيارته التي تحمل اطنان من القات والتي كنت اتعمد تفريغ الهواء من عجلاتها.

آه يؤلمني حقا ما اشعر به، وتؤلمني ما تعيشه صديقتي من عذابات واعباء مسئولية مبكرة  .. رضخت للبهرجة ولفستان ابيض ليس قياسها تستطيع ان تدخل في جلبابه الطويل كل بنات فصلنا، شعرها الحرير صار مجعد وقاس جدا محشو بالفصوص والحشوات، وشكلها صار كفراشة ملونة، كما وصفتها جارتنا.

عزمت على زيارتها مع خالة "ام حنين" ولكن لسوء حظي فقد اتاها ألم المخاض مبكرا، وكان عناقها لي بمثابة ارخاء الحمولة التي اثقلتها واعلانها الاستسلام .. انتزعت من ذراعي وسط صراخ واستعداد لإستقبال مولود جديد، تجمدت في مكاني اعظ على لساني كما هي عادتي عندما اريد ان اضبط نفسي، اردت ان افيق ان اعود لواقعي ونذرت بأن اوقف كل تلك الالعاب السخيفة.

سحبتني "ام حنين" وغادرنا دون ان احصل على أية تفاصيل .. إذ أنها لم ترد على سؤالي: «طفلة تلد طفله كيف؟!» .. اشعل التوتر والتمتمة بالدعاء التي تقوله خاله "ام حنين" في قلبي مخاوف كثيرة، فقد تملكتني الرغبة حينها بأن انظر الى صديقتي فقط، ودون اي تفكير تملصت من يدها وعدت ادراجي مهروله .. "حنين" متكورة على بطنها وتصرخ: «امي الحقيني سأموت» .. تكورت كما انها تعود الى بطن امها.

خالتي "ام حنين" تسابق الاحداث وتغلق عيناي عن التفاصيل .. تظن انها تستطيع حجبي كدعوة الزفاف التي منعت اصطحاب الاطفال وانا منهم وحنين ايضا ولكن كيف تمنع وهي وليمة المحراب من نميمة وفرح وزغاريد .. ياليتك يا خالة تغلقي حواسي فانا اشتم رائحة وجعها، وكذلك اسمع صراخ ذلك الرجل الغبي بتغطيتها كي لا تنكشف .. اي دين يعلمه بأن يستر طفلة وهو اكبر آثم في حقها..!؟!

انطلقت سيارة الاسعاف من جانبنا معلنة للحي معاناتها ومجسدة صرخاتها، سحبت يد خالة "ام حنين" من فوق جفوني كي اتمكن من لمحها، اشعر بانها ستطل من نافذة السيارة تلوح لي بيدها و شعرها ذو القرنين - يفرق الشعر من المنتصف ويقبض كلا على حده - يحجب احدى عينيها بفعل تأثير الريح لتبعده بإحدى يديها وتدلي بلسانها وتقول "هربت عليكي انًّه".
 
بحلقت في زجاج السيارة لكنني لم الحظ اي حراك عدى رأس ذلك الرجل الغبي يترنح يمنة ويسرة عند كل مطب .. تواصل خالة "ام حنين" تمتماتها بالدعاء وتطلب مني أن ادعي فدعاء الطفل على حد قولها مستجاب .. اشفق عليها واحتفط بكل تعليق سيء وعتاب لها .. ثم ادفن راسي بين اصابعي التي لا تكاد تغطي نصف وجهي واتمتم مثلها وقلبي وعقلي مشوش لم استطع ترتيب ما اقول .. ولكن كلي امل ان ترتاح من عذابها ذاك.

تحسست حوش منزلهم الذي كان يشاركنا الجعالة والمرح والصراخ، اصبحت عيناي ضبابيتان من كثافة الدموع المنهمرة من عيناي، تغير شكل حجرتها التي كان يعج بالفراش الممتد على كافة ارجاء الغرفة، هنا كنت اتحسس جسم عفاف وهنا دست على ذراع بلقيس وهنا دست على صاحبة الشعر الطويل هبه، اخيرا وصلت لمقدمة رأس حنين التي تترجاني ان اتركها خمس دقائق تأخذ غفوة. 

اشعر بأنها تحتاج الآن لغفوة لنسيان ما تعانيه، فالمنزل الجديد زنزانة اغتيال لطفولتها فهي تتحرك في أرجائه بالسطل الحديدي الذي كان سندها الوحيد، وهي تترجل منه فقط عندما تنهي نشر الغسيل وغسل الاطباق وحتى اعداد الخبز في ذلك البركان الناري - التنور- حيث كانت تصعد عليه لكي توازي بقامتها ارتفاع الاشياء. 

لا انكر ان ملامحها نضجت وصارت اجمل مني، ولكن بعد عناق طويل أحسست انني احتظنت امرأة من طين ذابت كل ملامحها وادركت انها مجرد سراب، تعيش صورة جسد فقط فروحها لا تزال تسكن حارتنا، لا تزال تداعب الكلب الصغير الذي تختلس له ما تبقى من طعام الغداء، صارت تتجول ليلا حافية كي لا يشعر بصوت حذائها احد يصاحبها عويل الكلاب، وانا التي كنت اتساءل مابالهن لا يهدأن تحت نافذتي، الان عرفت انها كانت تزورني وكانت تنتظر ان اطل واترك النوم والاحلام .. اشعر ان رسائلها معلقة على محراب بلكونتي التي عييت ان اخرجها لانها مكشوفه، والحقيقة انها مكشوفه على قبح عادات ومعتقدات اسخف من العابنا .. اسخف من ازهاق روح طفلة تموت فور وصولها لأقرب مستوصف صحي بسبب ضعف جسدها وقلة حيلتها.

ذهبت للمدرسة مجبرة وعمدت الى أأخذ جميع الكتب احببت ان آلمني ولكن لم اشعر بالتعب فالإنكسار يعتليني، وثقل في صدري يكاد يمزقني من الأعماق .. اعتذرت عن طابور الصباح وذهبت للصف ما ان ارخيت راسي على ماستي حتى باغتتني اسماءنا المحفورة وذكرياتنا واحلامنا المستقبلية .. فقد أردت انا ان اصبح محامية وتلك طبيبة وتلك معلمة ووووو اما "حنين" فأرادت ان تصبح كابتن طيار التي سخر الجميع منها ومن جنونها.

حان الان موعد تحية العلم القسم الذي يلازمنا ان نحمي تراب الوطن والثورة ولا يقسم الكبار على حماية طفولتنا .. لو أننا نعي كيف نحمي وطننا لتداركنا طفولتنا وحق ان تكون حنين معنا الآن .. لا ان تكون بين رفوفنا ودفاترنا وذكرياتنا .. ارادت ان تكون كابتن طيار وليس روح طائرة.

اكتظ الفصل سريعا بالطالبات ومعلمة التربية الاسلامية التي ستعلمنا اداب الاسلام، وياليتها تعلمنا اداب ومبادئ وقيم حقوق الانسان اولا.

* قاصة من اليمن.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص