الرئيسية - أدب عربي - الشعر في غبار المجد .. عبد الله راغب في «هذا الراقص» ..«تفاصيل»
الشعر في غبار المجد .. عبد الله راغب في «هذا الراقص» ..«تفاصيل»
الساعة 07:40 مساءاً (الحكمة نت: متابعات:)

يحتفي الشاعر عبد الله راغب في ديوانه «هذا الراقص» بالشعر، ويتلمَّس المعني الحقيقي لهذا الاحتفاء عبر استدعاء كوكبة من الشخوص أصبحوا رموزاً وعلامات ذات دلالات واضحة في تراث الأدب والفن، والتاريخ الإنساني بشكل عام؛ فثمة قصائد تحمل أسماء: لوركا، وسلفادور دالي، وماركيز، ومعاوية بن أبي سفيان، كما يحضر في النصوص بودلير وفرويد ودانتي، وغيرهم.

 

قد يكون من البديهي هنا أن النص يريد أن يوسع من مدار رؤيته، بجعلها بمثابة عين فاحصة للتاريخ، وأن يصبح هذا المسعى بمثابة نافذة إدراك جديدة لتلك الشخوص، تُطِلّ منها على حيواتها المنقضية وأزمنتها ومجدها الغابر، كما تمنح فرصة للذات الشاعرة أن تعيد اكتشاف نفسها في غبار هذا المجد.

 

إن هذه المتكئات الشعرية التي تدور حول شخوص بعينهم، تفترض بداهة أننا إزاء وعيين؛ أحدهما مسبق، منتج سلفاً، وأصبح قابعاً فوق رفِّ التراث، وهو وعي هذه الشخوص المستدعاة، كاشفاً عن حس بالانتقاء والانحياز لها، لا يخلو من المحبة أيضاً. في مقابل الوعي الثاني؛ وعي النص، الآني الحي اليقظ. لكن ما الذي يوحِّد الوعيين شعرياً، ليثمرا علاقة تبقى في ذاكرة النص، وليس في ذاكرة الماضي المتمثل في طبيعة ورمزية هذه الشخوص... المفارقة هنا أن وعي الشخوص مفارق للحظته الماضوية، وممتد في جسد الزمان والمكان، بينما وعي النص مشوش ومرتبك داخل لحظته الآنية.

 

لقد أرادت الذات الشاعرة أن تقيم نصّاً موازياً لعوالم هؤلاء الشخوص، وفي سبيل ذلك لجأت إلى الصور الخاطفة الحادة المشرَّبة بمسحة من الخرافة والفانتازيا، لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، ومن واقع هذه النصوص: هل يمكن من خلال دفقها الاحتفائي المحب، وزمانها الأحادي، الذي يستند في الغالب الأعم على أفعال المضارعة الساكنة أن نعيد إدراك سريالية دالي ونفككها وفق معطى جمالي مغاير، هو ابن وعي النص: الإجابة في رأيي: لا... الأمر نفسه لا يبتعد كثيرا عن ماركيز، وواقعيته السحرية، ولوركا ومشهد إعدامه الدراماتيكي، وكذلك الاشتباكات الخاطفة لفرويد ودانتي وبودلير. لكن يبقى نص «رمح معاوية» (ص57) الوحيد الذي يشكل استثناء في هذا السياق، حيث يتحول معاوية إلى قناع، تظلله غلالة سردية شيقة، تقف به على حافة حكاية، لم تنتهِ، بل قابلةٌ للمراجعة وإعادة النظر والتأويل. إنه قناع التاريخ والنص معاً، تتخفى تحته الشخصية، ترتديه وتخلعه في لحظات مصيرية حاسمة يتم التعبير عنها في مشهدية مكثَّفة مباغتة لها وخزها الخاص، يصورها النص على هذا النحو:

 

«قناع يهرب من صاحبه

 

حروف متناثرة

 

لا تصلح لكتابة نص استغاثةٍ

 

وضوء يهرب من متأهِّبٍ لصلاتهِ،

 

قاربٌ يتخفى داخلَ دائرةٍ

 

من صراخٍ.

 

المشهد كان كافياً

 

أن ألقي كلّ هذا الفزعِ

 

في رأس رفيقي الذي أكد لي

 

أن معاوية يقف على أعتاب

 

بيتي».

 

إن فعل الاحتفاء بكل شطحه ونزقه ينهض في جوهره على مجاز إنشائي ساكن، وليس على المساءلة وإثارة الجدل والحوار... كيف أحتفي بشخوص أثارت معارك على مدار تاريخها لا يزال غبارها حيّاً في الذاكرة، ولا أُسائِلها، حتى عن معنى الحب، ناهيك بمعنى الحرية والحلم والفن؟!

 

يستهلّ الديوان عالمه بنص عنوانه «المجد محض داعرة» لا بأس، فللداعرة مجدها وشرفها أيضًا على المستوى الإنساني، فما بالك حين تكتب أشعارها على نمط بودلير... هذا المشهد المغوي، الذي تتناثر فيه مناخات صاحب «أزهار الشر» الشعرية الجارحة، لا يملك الشاعر حياله سوى أن يرثي ذاته، في غبار صور طائشة، وربكة ضمائر يلتبس علينا تحديد مساراتها بدقة. فمثلما يقول النص:

 

«المجد محض داعرةٍ

 

كتبَتْ أشعارها على نمط بودلير

 

واستلقى

 

على ضفة القصيدةِ

 

ولم تألفها (ذكورةِ) الماء

 

المجد لن أنالَه

 

بينما ظهري العاري صهباءُ

 

تطهون فوقها لحمَ ضأنٍ

 

تختلط فيه رائحة الشواء

 

برائحة احتراق جلدي»

 

لا أعرف وضعية الفاعل بالضبط وراء الفعل استلقى، هل هو المجد، أم بودلير، أم الشعر، أم الذات الشاعرة نفسها؟ ويزداد الأمر ارتباكاً، في الفعل «تألفها». فعلى مَن تعود الهاء، هل تعود إلى القصيدة، أم تظل بمثابة ضمير غائب معلق في المجهول، خصوصاً أنه لا فاعلَ مشكولاً وواضحاً في الجملة، بل نجد علاقة إضافة في جملة «ذكورةِ الماء» التي تلي الفعل؟ قد يكون اللبس هنا نتيجةً لخطأ غير مقصود، وربما العكس... لكن هذه الربكة اللغوية لا يكاد يسلم منها نصٌّ في هذا الديوان، وخطورتها لا تكمن فقط، في صنع حالة من تشتيت المعنى، بل فيما تتركه من فتور فني لدي المتلقي (نص «جدار زجاجي» (ص21) ونص «هذا الراقص» (27) على سبيل المثال).

 

رغم ذلك، استطاعت الذات الشاعرة أن تمارس نزقها بحيوية في هذا النص، متخذة من السريالية معولاً للهدم والبناء، وإعادة النظر في أشيائها الخاصة، في لحظات هشاشتها وضعفها ومرضها، وكأنَّ الشعر خط الدفاع الأخير لوجودها، وسط عالم مضطرب ومتوحش، لا قلب له ولا روح.

 

في ظلال هذا يتابع الشاعر في هذا النص قائلاً:

 

«يا سادتي

 

أنا لستُ من الموالي

 

ولستُ منمقاً للحد الذي

 

يجعلني على أهبة الانزلاق بداخلي

 

والكبد ليس مهيأً

 

كي يصبح راعياً لاسترخائي

 

الطويل».

 

إنه المجد الآثم البريء، ينتصب كرمح في فراغ شاسع، رغم ما يعلق به من صرخات الجرحى والجوعى وأرواح تُحتضَر، تتشبث به الذات الشاعرة عابرة إلى مناخات وأجواء نصوص الديوان، وكأن هذه النص بمثابة قنطرة لهذا العبور.

 

في هذا العبور، يطالعنا نص «لوركا»، في مشهد صامت وساكن، أقرب إلى صورة جنائزية تسيِّجها الذات الشاعرة في بداية النص، مشيرة إلى أنه «مات وحيداً على صخرة تطل على قطالونيا». لكن ما أتعس المجاز هنا، حين يحول النصُّ القتلة إلى مجرد كلاب تعوي، أطلقت نباحها على لوركا فأردته قتيلاً «الكلاب كانت جائعة تماما / ثم أطلقوا عليه النباح / لوركا رفض أن يموت». والمعروف أن لوركا أُعدِم رمياً بالرصاص على يد جنود الطاغية فرانسيسكو فرانكو في عام 1963، خلال الحرب الأهلية الإسبانية، بعد أن اعتُقِل في غرناطة، وأنه لم يتم العثور على جثته حتى الآن.

 

لم يلتفت النص لكثير من الأبعاد الدرامية في حياة لوركا، سواء على المستوى الاجتماعي، أو الإنساني، من بينها أنه كان مثليّاً جنسيّاً، وحبُّه الشديد لأمه، حتى إنه كان يلقِّب نفسه بكنيتها عوضاً عن كنية والده، فضلاً عن صداقته لسلفادور دالي الذي رسم له ديكورات إحدى مسرحياته، حتى في نصِّ دالي لم نجد أثراً لهذه العلاقة، التي كان من الممكن أن تخلق جسراً دراميّاً شفيفاً بين الشخصيتين، يثري النصين معاً.

 

هكذا في هذه النصوص ذهب الشعر إلى الآخر، وعن طيب خاطر ومحبة، انضوى تحت عباءته وأحلامه، حاول أن يحاكيها ويلاطفها، ويستأنس بها، لكنها كانت - في الغالب - ملاطفة ومحاكاة انتفت فيها نوازع المشاكسة والخصومة الفنية المكوِّنة والمجدِّدة.

 

بداية من صفحة (63) وإلى آخر الديوان، يستعيد الشعر الدّفة، يذهب إلى نفسه، فلا دالي ولا لوركا ولا ماركيز، لا متكئات يتَّكِئ عليها سوى نفسه، ووجعه الإنساني المشعّ... ينداح الشعر في لطشات حانية وجذابة، أشبه برقرقة الألوان على مسطح اللوحة، لوحة النص والوجود، فيما تصفو اللغة إلى مائها الحي في النص، متخلِّصة من مجازات الآخر وعلاماته المربكة، فالشعر «ناي»، و«طاووس»، وهو أيضًا «ثرثرة» تفتح ثقباً في جدار البوح، وهو فسحة للأمل، تومض في «ما بعد عام الرمادة»، وكما يقول الشاعر في نص بالعنوان نفسه (75):

 

«القصائد التي لا تترك رائحتها

 

على جدران غرفة نومكَ

 

وتشد أهدابَ عينيكَ

 

حيث تنام

 

وتترك صوراً من ألبومها

 

فوق رصيف الشارع

 

وواجهات محلات الحلوى الشرقية

 

هي محض فاكهة معلبة

 

سوف نصفِّق لها قليلاً

 

ثم نلعنها بعدما يمر عام الرمادة

 

وتُنبِتُ الأرض بقلها».

 

- الشرق الاوسط: جمال القصاص

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص