د. فارس البيل
قراءة في كتاب «ريحانة قريش» للدكتور صادق القاضي
الساعة 06:05 مساءاً
د. فارس البيل


بقلم: د. فارس البيل
كثيرٌ من الأحداث والقضايا والمواقف والأماكن والتغيرات في تاريخنا وموروثنا وفي الحضارة عمومًا؛ ما تزال أسئلة مفتوحة وإجابات محيرة، إذ لم تختبرها منهجية دقيقة شافية، ذلك أن التناول العلمي لكثير من الظواهر الثقافية والمعرفية يخضع للانتخاب والاستلاب، وتؤثر عوامل كثيرة في اختيارات البحث المنهجي ومداه ورؤاه، منها قصور أدوات المعرفة ومهارات البحث، وعدم كفاية الأدلة والاستعداد المنهجي، وتصادم الحجج أو تناقضها، وهشاشة المادة أو عدم توفرها، وهي قضايا يمكن التغلب عليها، لكن الأخطر منها التأثر والميل، كذلك التكوين المعرفي والعاطفة الفكرية للباحث والدارس، وحالة الاستقطاب التي يدور فيها، وهذا ما يؤثر بشكل جلي في عدم التصدي المنهجي لقضايا شائكة قد تورث الجدل والخلاف، وإن حدث نوع من المغامرة في تناول مثل هذه القضايا؛ فإنها مغامرات مبتسرة، تحسب ردات الفعل وتخافها، وتهمل المنهجية العلمية وتتزهد عنها أو تتساهل بها، بل إنها تجير البحث في اتجاه قناعات معينة، وتهمل الموضوعية النزيهة، وهذا خلل معرفي كبير، ترك لنا الكثير من القضايا السطحية والهامشية لتصبح مواداً أولية وحاكمة في موروثنا، بينما أهملت القضايا الكبرى والأسئلة العميقة، بل إن كثيراً من تداولاتنا وتصوراتنا أنتجتها قناعات منحازة، ولم تنتجها الموضوعية النزيهة والعلمية المنهجية الصارمة، وهذا سبب لخلل كثيرة في تفكيرنا ونقاشاتنا.

زد على ذلك أن كثيراً من القضايا المهمة في تاريخنا وموروثنا العربي، ما تزال دون الكشف والبيان، للأسباب الآنفة الذكر ، علاوة على صعوبة تناولها وعناء البحث والتدقيق لتجليتها، فهي بحاجة لقدرة بالغة ومتأنية لجمع كل الأدلة النافرة والنظر فيها بعين التمحيص والتحليل، بنزاهة عالية ورؤية علمية مبصرة وحيادية، والصبر عليها، للوصول إلى الحقيقة أو تجلياتها. 

ثم إن كثيرًا من الباحثين يأنفون الدخول في القضايا الشائكة أو تلك المرهقة ذهنياً، وإن كانت كبرى وجوهرية، ويتحولون عن هذا الجهد إلى القضايا الموفورة والموضوعات السهلة.

أما هذا الكتاب فهو من ذلك النمط الجاد، الذي يتصدى للقضايا الكبرى ويتجشم عناء البحث فيها على صعوبته وتعقيداته، موفورًا بالعزيمة والقدرة العلمية والرؤية المنهجية والموضوعية قدر الإمكان.

وقضية شائكة وغائرة في التصور والمعلومة مثل فكرة قريش القبيلة وتاريخها وتكونها وأساطيرها وبنيتها الاجتماعية والدينية والثقافية، لم تحظ بجهد علمي كثيف، يستجمع كل مفرداتها ويقرأها بشكل علمي، بمعزل عن النتف المبتورة والإشارات المتفرقة التي تطالعنا عن قريش، إذ لم نتعرف على قريش الشاملة بكل أبعادها باعتبارها كيانًا وموقفاً دار بها أهم تغير في تاريخنا العربي وربما التاريخ بمجمله.

وإن أُنتجت دراسات عديدة حول قريش بشكل متخصص وعلمي، بعيداً عن التعالق الديني، فهي قليلة بالعموم، علاوة على اختصاص بعضها بجوانب معينة، أو قصور البعض الآخر عن التناول المنهجي المحقق، ولذلك تأتي هذه الدراسة المستفيضة التي أنتجها الباحث العتيد الدكتور صادق القاضي؛ من أهم الدراسات التي تقدم عن قريش، كما أتصور، لا بوصفها جماعة قبلية كانت حاضرة في أهم حدث تاريخي، لكن باعتبار قريش كيان حضاري تألف مسبقاً بشكول معينة، وأثر وتأثر في الدين الجديد الذي غير واقع العالم، وكان لطبيعة هذا الكيان وتركيبته وتصوراته أثر مهم في المنطقة والواقع الجديد.

وهذا الكيان الاجتماعي بكل ما يحمله من بذور التفوق والامتياز، أو الاخفاق والضمور كما تقف عليه الدراسة بطرائق علمية؛  هو مسرح لأهم الأحداث التاريخية بكل ما يكتنزه من عوامل احتضان هذا الحدث، أو مجابهته. 
لذلك تقتضي المعرفة الملحة هذه الدراسة المحتشدة بكثير من الأدلة التي تعتمد تشريحاً علميا للبِنى المكونة لهذه الكيان والمنتجة له.

وهذه الدراسة التي تعنى بالإحاطة بقريش بكل التباساتها المعرفية؛ ستضيف إلى تصوراتنا الدينية ومعارفنا للوقوف على كثير من المبهم والإجابة عن كثير من الأسئلة وبيان مصادر كثير من الحقائق الدينية وكيف انبنت عليه.

كما أن هذه الدراسة تحاول أن تغير طريقة تفكيرنا وتصوراتنا عن قريش إلى الصورة الموضوعية، وتوسع إدراكنا للنظر في منهجية الدين الإسلامي وكيف تشكل، واستند حتى وصل إلى ما وصل إليه.

إن هذه الدراسة بحث منهجي في الأصول التاريخية لقريش، وامتداداتها المعرفية، وقيمتها وقيمها ورموزها، كما أنها - أي الدراسة- بحث جاد يزيل الكثير من اللبس، ويبعثر التزويقات والمبالغات التي اعتورت تلك المرحلة التاريخية، ويسعى بمنهجية بحثاً عن الحقيقة، ليجلي كثيراً من الآراء التي اعتمدت الأساطير والخرافات حول قريش ومواقفها حسناً أو قبحاً، ويحاول أن يقدم الرأي الأقرب للمنطق والعلمية.

على أن هذه الدراسة لا تقتصر على قريش من حيث بنيانها الاجتماعي، بل تخوض في تشكلاتها المعرفية والثقافية وبناها الدينية وروافد كل ذلك، حتى تقدم الصورة مكتملة عن قريش شاملة الأبعاد، فيستقيم عليها الحكم.

وتبعاً لهذا الاشتمال المنهجي لهذه الدراسة فقد كانت تمتد أحياناً إلى قضايا خارج قريش كالعلاقة الحضارية بين اليمن وقريش وجدليتها، أو إلى الشمال من الحضارات الأخرى، وكل ذلك كانت تحتاجه الدراسة لتضيء ارتدادات المواقف والأحداث.

وأتصور أن هذه الدراسة المعمقة، بتفردها المتخصص واعتمادها حتى على النقوش والمخطوطات والمراجع الموثوقة في تدعيم رؤاها واتجاهاتها؛ أنها ستثير الكثير من الجدل والرأي اتفاقا أو اختلافاً أو حتى كشفاً لقضايا لم تكن معلومة ومنتشرة، وهذا أمر محمود سيحرض على المزيد من الدراسة والاتجاه نحو هذه القضية ونحو قريش وربما يغطي مناطق لم تشبعها هذه الدراسة، كما أنها ستكون دافعاً للاتجاه بالبحث نحو مثل هذه القضايا المعرفية بشمول وإحاطة ومنهجية كاملة، بعيداً عن حالة التخير البحثي المجزوء لكثير من القضايا والأحداث والمعارف.
  
لقد قاد إلى هذه الدراسة الموسعة سؤال بسيط وتصور ما، كما يوضح المؤلف في مقدمته الضافية، وهذا الأسلوب المنهجي في الإجابة هو ما نطمح إليه في عالمنا المعرفي، الذي  يختزل المعلومة ويجتزءها ويبعدها عن سياقاتها ويورثنا فوق الجهل بها جهلاً وتعصباً مبنياً على تصورات منقوصة وربما مغلوطة.

إن ما نحتاجه بشدة هو مثل هذه الإجابات المعرفية التي تستند إلى العلم والدليل والحجة والمنطق، وتطّلع على ما تتفق معه وما تختلف عنه،  يقودها المعرفة لا القناعات المستبطنة، لتصل إلى الغاية المحققة والنتيجة الأمثل والفكرة الأصح،  وهذا ما أميل إلى أن هذه الدراسة قد اعتمدته بغية الإيضاح وخدمة الوعي الذهني بتاريخنا وقضايانا وديننا، بعيداً عن الاختزال المخل أو التكثيف الممل.

لقد أرادت هذه الدراسة، معتمدة على حشد من الأدلة والمراجع، بما فيها المراجع الأجنبية وجهود المستشرقين والنقوش القديمة؛ أن تبسط هذه القضية بمعزل عن هلامية التقديس أو مادية التحقير، وأن تتناول هذه المرحلة التاريخية المهمة باتزان موضوعي ومقاربة تؤنسن الشخصيات فيها وتعلل مواقفها ببشريتها وقدراتها النفسية والسلوكية، وتُخرج من بطون الحكايات الهائلة عن هذه الفترة ما يستقيم مع العقل والواقع أو يكاد. 
وأياً تكن الخلاصات التي أنتجتها هذه الدراسة في تناولاتها وانتقالاتها المختلفة، فإنها جهد لا يدعي المثالية واحتكار الحقيقة، إنما هي بذل علمي انتظم بعوامل الموضوعية والشمول والإحاطة والمرحلية ومن ثم التحليل بما يقترب من الأصح والممكن.
 
فقد جمعت هذه الدراسة الأشتات، وعادت إلى الجذور، وأكملت الصور المجزوءة، والتأمت بكل ما علق في هذه الفترة، لتنتج للقارئ صورة مشمولة موثقة عن قريش، من قبل مجيئها، مروراً بتكونها وطاقاتها وطبقاتها، وموقفها المعادي للإسلام، ثم موقفها معه، وموقفها بعد ذلك في الدولة العربية الجديدة.

ويحمد لهذه الدراسة ترتيبها وتناوبها وسهولة تناولاتها وتذليل المعلومة قدر المستطاع، وتماسك المعلومة التي تقدمها رغم أنها تنتج من روافد متداخلة، وعدم ترك القارئ للتخمينات أو أن يتيه في كلام طائل بلا دليل، بل تراها توجز فيما يجب وتسهب فيما ينبغي، وإن كانت لا تصل لحد الاكتمال، والإجابة عن كثير مما ستثيره في ذهن القارئ، لكنها على الأقل تتفتح له الآفاق للبحث أكثر، وتمده بالقدرة الواعية على القراءة المنصفة بناء على منهجيتها.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص