د. أحمد قايد الصايدي
ما زال الصخب يتصاعد، حول اللائحة التنفيذية للقانون رقم (2)، لسنة 1999م. وما زال الغضب المتبادل يحتد. فمن أصدروها يتمسكون بها. ومن يرفضونها، يختلط فيهم من يريد توظيف الموضوع توظيفاً سياسياً، ومن هو قلق فعلاً على السلم والتعايش الاجتماعي وينطلق من مبدأ عدم التمييز بين أبناء الشعب الواحد. ولم تكن اللائحة موفقة في إثارة هذا الإشكال، الذي كنا في غنى عنه. فالخلفية الدينية، التي انطلقت منها، ولدت هذا الجدل المضر، الذي اختلط فيه الدين بالسياسة بالاصطفافات غير الموضوعية.
ولو أننا استحضرنا، فكرة الدولة، التي ظننا أننا قد توافقنا عليها، وهي الدولة المدنية، لما وُجد هذا الإشكال، ولتجاوزنا كل الاعتبارات الطائفية والعرقية والمناطقية. فالدولة المدنية تتعامل مع اليمني كمواطن فحسب. كل اليمنيين في نظرها سواسية، في الحقوق والواجبات، لا فرق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح. وهذان يتجسدان بالكفاءة والنزاهة والقدرة على الإنجاز في العمل، بعيداً عن معايير العصبيات والانتماءات المختلفة. إن التوافق على بناء الدولة المدنية، سيغنينا عن الخوض في قضية خلافية، كقضية الركاز والمعادن، فيها الكثير من الأقوال المتباينة والاجتهادات المختلفة، حول ما يُعطى منها أو لا يعطى، لمكون اجتماعي بعينه. فهذه قضية تسقط تلقائياً في ظل الدولة المدنية، ولا تبقى موضع خصومات، تزيد أوضاعنا الحالية تعقيداً وتأزيماً.
لقد أثارت هذه القضية من الصخب، ما كان يجب تجنبه. فهي موضع جدل فقهي، لسنا بحاجة إليه. ومن أطرف المفارقات، التي تُبرز مستوى الجدل والمشاحنات، حول هذه القضية، أن المؤيدين لها يستشهدون برأي أحد خصومهم، وهو الأخ عبد المجيد الزنداني، أحد قيادات حزب الاصلاح (الإخوان المسلمون)، والرافضين لها يستشهدون برأي الأخ الشهيد الدكتور أحمد شرف الدين. وهو أحد فقهاء الحركة الحوثية. وهذه المفارقة تلفت النظر وتسترعي الانتباه. فكل طرف يبدو مستعداً أن يذهب بعيداً في جدله، إلى حد الاستعانة بخصمه، إذا تطلب الأمر.
ودعونا هنا نحاول إلقاء بعض الضوء على مدى اشكالية هذه القضية وصواب التخلي عنها، فنستطلع ما لا نحب أن نخوض فيه، نستطلع طرفاً من تباين آراء العلماء في موضوع الركاز والمعادن، دون أن ندعي علماً أو ننفي عن أنفسنا جهلاً في هذه المواضيع:
فالركاز هو ما دفنه أهل الجاهلية في باطن الأرض. وحكمه أن يُسلَّم منه الخمس لولي الأمر (الدولة)، ويعطى لمن وجده الأربعة الأخماس الأخرى. ولا يشمل هذا ما دُفن في عهد الإسلام. فما دُفن في عهد الإسلام يُسمى (لقطة). واللقطة تبقى ملكاً لصاحبها الأصلي، إذا عُرف. وعلى من وجدها أن ينتظر عاماً كاملاً, فإذا ظهر صاحبها دفعها إليه، وإذا لم يظهر، تصبح ملكاً له، أي لمن وجدها. ولم يدر جدال حول (اللقطة)، لأن حكمها يبدو واضحاُ. أما (الركاز) فكان موضع خلاف.
ومع أن العلماء قد اتفقوا على أن الدولة تأخذ خُمُس الركاز وتعطي لمن وجده الأربعة الأخماس الأخرى، فقد اختلفوا بعد ذلك في مصارف هذا الخُمُس. فبعضهم رأى بأن حكمه حكم الغنيمة، ويُصرف في مصارفها الخمسة. وبعضهم رأى أن حكمه حكم الزكاة، ويُصرف في مصارفها الثمانية.
وهناك من العلماء المعاصرين من خلط بين معنى (الركاز) وبين معنى (المعادن)، باعتبار أن كلاهما مدفون في باطن الأرض. وهذا الخلط يبدو واضحاً أيضاً في اللائحة التنفيذية لقانون الزكاة، التي نتحدث عنها. فلم تميز اللائحة بين الركاز وبين المعادن، ولم تتحدث عما يؤخذ من الركاز وحده للدولة، وهو خُمُسه، مع بقاء أربعة أخماسه لمن وجده. بل نصت على أن ما يؤخذ من الركاز والمعادن معاً هو 20%، أي الخُمُس. ووزعت مصارف الخمس هذا على ستة أسهم، كما بينا في مقالنا السابق. ولم تُسمِّه لا زكاة ولا فيئاً ولا ضريبة، ولا أي تسمية أخرى، كما فعلت في كل موضوعات الزكاة الأخرى، كالأنعام وعروض التجارة والنقود والزرع والثمار وغيرها. ولعل ذلك كان بقصد تحاشي تسميته زكاة، حتى لا يُحرَم منه (بنو هاشم).
ومع ذلك يبدو أنه كان من الصعب تحاشي هذا المحذور بشكل كامل، إذ نصت الفقرة (د) من المادة (47) على أن رئيس الهيئة (هيئة الزكاة) يصدر &بعد موافقة المجلس قراراً بتنظيم عملية تقرير وتحصيل واحتساب (زكاة) الركاز والمعادن والمنتجات المائية&. وهذا النص يُفترض أن يستثني بني هاشم من زكاة الركاز والمعادن، وينهي الجدل القائم، انسجاماً مع القاعدة الغريبة، التي لا أستطيع أن أفهمها أو أسلم بها، وهي حرمان المحتاجين منهم من الزكاة. وكأنهم ليسوا بشراً مثلنا وإخوة لنا ومواطنين، شأنهم شأن كل المواطنين اليمنيين، فيهم الفقير وفيهم المسكين وفيهم ابن السبيل وفيهم الغارمون وفيهم العاملون عليها وفيهم المجاهدون في سبيل الله. وكل هذه الفئات تم تحديدها في مصارف الزكاة المعروفة، التي كانت ثمانية، وأصبحت ستة، بعد أن ألغى تطور التاريخ وتغير الأحوال السهم المخصص لعتق الرقاب والسهم المخصص للمؤلفة قلوبهم.
أي قاعدة هذه، التي نُجبر على الأخذ بها، ونرضى بأن نحجب عن مواطنين يمنيين حقهم في الزكاة، فيلجأ واضعو اللائحة إلى محاولة الالتفاف عليها، أي على هذه القاعدة، بالصورة التي نراها في المادتين المتناقضتين (47 و48) من اللائحة. فمرة يتحاشون تسمية ما يؤخذ من الركاز والمعادن بالزكاة، ليأخذ الهاشميون نصيبهم منها، ومرة لا يجدون مفراً من تثبيت هذه التسمية، التي تُسقط حق الهاشميين فيها.
وأما المعادن: فهي المواد الجامدة أو السائلة، ذات القيمة، التي استقرت في باطن الأرض منذ خلق الله الأرض. وقد اختلف العلماء في أيها يجب عليها الزكاة. فرأى البعض أن كل المعادن المستخرجة من الأرض مما ينطبع بالنار (يُسك كنقود ويُشكَّل كحلي)، هي معادن يجب أن يُزكَّى عليها، ولا زكاة في المعادن السائلة أو الجامدة، التي لا تنطبع بالنار. في حين لم ير البعض الآخر منهم فرقاً بين ما ينطبع بالنار من المعادن، وما لا ينطبع. فكل معدن يخرج من الأرض وله قيمة، تكون الزكاة فيه واجبة.
واختلف العلماء أيضاً في مقدار الزكاة الواجبة في هذه المعادن. فبعضهم قال بنصف العشر، وبعضهم قال بربع العشر، وبعضهم قال بالخمس. ورأى بعضهم أن المعادن نوعان: ما يتطلب استخراجه جهداً ومالاً، فليس عليه زكاة. وما لا يتطلب استخراجه جهداً ومالاً، فزكاته واجبة. وبطبيعة الحال، لا يمكننا أن نفهم هذا الرأي إلا في حدود ما يستخرجه الأفراد لا ما تستخرجه الدول.
وفي رأي بعض العلماء المعاصرين، ومنهم (مجمع البحوث الاسلامية)، برئاسة شيخ الأزهر، أن زكاة الركاز فريضة غائبة لم تطبقها أي دولة إسلامية، ورأوا أنه لا بد من أخذ الزكاة عليها، فيؤخذ منها 20%، أي الخمس، يُنفق في المصالح العامة للمجتمع. وهؤلاء يخلطون أيضاً بين الركاز وبين المعادن، فيتحدثون عن الركاز، بمعنى كل ما هو مدفون في باطن الأرض، بما في ذلك الثروات النفطية، التي يرون أن زكاتها لو دفعت، ستبلغ مئات المليارات، وأن هذا كفيل بالقضاء على الفقر، ليس في البلاد العربية وحدها، بل وفي العالم الاسلامي كله. وهكذا يتجاوز هؤلاء التعريف الأصلي للركاز، وهو ما دُفن في الجاهلية.
وهناك رأي يختلف عن آراء هؤلاء جميعهم: فكل ما يُستخرج من الأرض، سائلاً أو جامداً، فهو كله ( أي 100%) ملك للمجتمع بكامله. وقد علل أصحاب هذا الرأي ما ذهبوا إليه، بأن مصلحة المسلمين تقتضي أن تكون هذه الأموال لمجموعهم، لا لآحادهم، درءاً للتزاحم والتخاصم والتنازع. وجعلوها تحت سلطان ولي الأمر (أي الدولة) ينفق من غلاتها في مصالحهم.
وهذا الرأي الأخير، الذي يضع المصلحة العامة للمجتمع فوق كل المصالح الفردية والفئوية، هو أسلم الآراء، وأكثرها انسجاماً مع روح الاسلام ومع روح العصر. فبالنظر إلى تباين الآراء واختلاف المجتهدين، ودرءاً للتزاحم والتخاصم والتنازع ، فإن تغليب المصلحة العامة، هي المخرج السليم من هذا الإشكال، وهي الموقف العقلاني المستنير إزاء اختلاف آراء واجتهادات العلماء، في مسألة ما كان يجب أن تثار، في هذا الظرف الحرج، الذي يواجه فيه اليمن عدواناً خارجياً، يسعى إلى تفتيت مكوناته وتمزيق جغرافيته، واقتتالاً داخلياً يعمّق الانقسام ويسهّل تمزيق اليمن واليمنيين، وأوبئة فتاكة، تقتلنا وتعطل أعمالنا وتجمد حركتنا. بل ما كان يجب أن تثار هذه المسألة أصلاً، لا في الوقت الراهن ولا في المستقبل.
وأعيد الإشارة هنا إلى ما أوردته في مقالي السابق، بعنوان (دعوها فإنها مُنْتِنَة)، وأقصد بها العصبية والعصبية المضادة. فمع تأكيدي على أن التسمية (الهاشميون)، التي تداولها العلماء والعامة، هي تسمية غير دقيقة، إذ تعني جميع ذرية عمرو بن عبد مناف، الملقب (هاشم)، فإن إبراز هذه التسمية، بقصد تمييز مكون اجتماعي يمني واحد عن المكونات الاجتماعية اليمنية الأخرى، أو بقصد التحريض عليه، هو أمر لا يقبله العقلاء. وقد أشرت في مقال قديم، نشرته قبل بدء الحرب، عندما كان التحريض على هذا المكون يتصاعد، أشرت إلى أن من بين أبرز قادة المعارضة في عهدي الإمامين يحي وأحمد، من كانوا ينتمون إلى هذا المكون، وقد ضحوا بأنفسهم وطاحت رؤوس بعضهم وشردت أسرهم، على يدي الإمامين المذكورين، وهم يناضلون في سبيل اليمن ونهضته وتقدمه، وأن من بين أبرز قادة ثورة 26 سبتمبر 1962م شباب ينتمون إلى هذا المكون، ناضلوا ضد الظلم والاستبداد والاستئثار وادعاء التميُّز. وأكدت في ذلك المقال على أن التحريض ضد هذا المكون الاجتماعي اليمني مرفوض وطنياً وأخلاقياً. فما بالهم يصنعون اليوم بأنفسهم ما رفضنا أن يصنعه الآخرون بهم؟.
وفي ختام هذه العجالة، لا بأس في أن أشير إلى الخطأ في الحسابات، الذي دفعنا ثمنه غالياً. فقد أخطأ البعض في حساباته، عندما ربط نفسه بشرعية فاسدة وبعدوان خارجي، لم يأت غيرة ولا نجدة لليمنيين ولا حرصاً على الشرعية، بل جاء لأهداف، كتبنا وتحدثنا عنها منذ بداية الحرب. وأظنها أصبحت الآن واضحة، بعد ما يزيد على خمس سنوات من الدمار والجوع والتشرد، ومن الحصار الخانق، الذي ألحق الضرر بالشعب اليمني كله. وأخطأ الحوثيون في حساباتهم، عندما وجدوا طريق الاستئثار بالسلطة مفتوحاً، فوثبوا عليها، وتمددوا عسكرياً، ولم يحسبوا حساباً لإمكانية أن يؤدي تمددهم العسكري إلى تدخل خارجي. وكانت النتيجة أن الجميع فوجئ بهذا التدخل. وحتى الأخ عبد ربه منصور هادي، لم يخف أنه تفاجأ بالتدخل. ففي مقابلة تلفزيونية، أكد أنه عندما هرب ليلاً من عدن إلى المهرة، تفاجأ في الصباح، بأخبار الغارات الجوية، التي تقودها السعودية. وأردف بأن الأمريكان كانوا قد أكدوا له، بأنه لن يحدث تدخل خارجي.
لقد كان هذا ضرب من العمى السياسي أصيب به الجميع، وأساءوا تقدير الموقف، ولم يدركوا أن التدخل الخارجي وارد في كل وقت، وأنه لا يحتاج إلى أن يستأذن من أحد، وأن الدول الاقليمية، ذات المطامع التوسعية، والدول الكبرى في العالم، جميعها لها مطامع في اليمن، وأن اليمن جزء من الوطن العربي، الذي يراد له أن يتفتت وأن يعاد تقسيمه، عبر مرحلة من الفوضى الخلاقة، أي من الحروب الداخلية والتدخلات الخارجية، التي ستُنضج شروط التقسيم، وترسم على الأرض خارطة جديدة، تتقاسمها جماعات مناطقية طائفية عرقية، متناحرة، لن تتعايش أبداً. وهذا هو المطلوب تماماً، بالنسبة للأعداء، وهذا ما خططوا له منذ عقود من الزمن، ولم يعد خافياً على أحد، فقد تحدث الأمريكيون عنه وروجوا له علناً، ولكننا قوم لا يعقلون.
لقد آن الأوان ليراجع كلٌ حساباته بعناية، ويفكر كثيراً في ما يقدم عليه وما يصدر عنه. ولتكن بوصلتنا جميعاً هي مصلحة اليمن وشعبه. ولنتجه بصدق وإخلاص إلى السلام، عبر إيقاف الاقتتال بين اليمنيين، ورفض التدخل الخارجي والعودة إلى الحوار، الذي يمثل طوق النجاة لنا جميعاً، ولنبن معاً دولتنا المدنية، الراعية لكل اليمنيين دون تمييز. هذا هو الطريق الآمن والسبيل الصحيح لإنقاذنا وإنقاذ بلدنا، الذي لو سلكناه من وقت مبكر، لما وصلنا إلى هذه المرحلة من التمزق والتشتت وإثارة العصبيات والارتهان للخارج والاقتتال فيما بيننا في الداخل، ولما كنا اليوم نقف بين مؤيد ورافض للائحة، أثارت من الصخب، ما لا يمكن أن يثار في ظل دولة مدنية، تقوم على قاعدة المواطنة المتساوية والشراكة الوطنية والتبادل السلمي للسلطة وحماية استقلال اليمن وسلامة أراضيه ورفض التبعية لأي قوى خارجية، دولة تحافظ على المصالح العليا للشعب اليمني وتنهض باليمن وتصون كرامة اليمني حيثما ذهب.