من الطبيعي، في الدول المتقدمة، تطبيق مبدأ الثواب والعقاب على الحاكم، على الاقل معنوياً، وكذا عدم الإسراف في المحبة والولاء والكراهية والخصومة، لا يوجد في قاموس أي شعب يتمتع بوعي سياسي شيطنة للقيادات ولمسؤولي البلد، لانه ببساطة يفصل بين العواطف وبين السياسات اوالإدارات ويسمي الأمور والأشياء بمسمياتها، كما يتقبل السياسات الخاطئة، في ظل الاعتراف بأنها خاطئة، ويثق بمسؤوليته ومشاركته في قبول واستمرار او رفض وايقاف السياسات التى ينتهجها القادة، فان أحسن الواحد فيهم لقي التقدير والمساندة، وان أساء واجه التنديد والرفض.
وبالنظر الى الحالة اليمنية فأن المعاناة جلية من الأمية السياسية والضميرية، وعلى الرغم من أن "الحكمة يمانية"، إلا ان الحكمة التي تقتضيي في اقل مستوياتها الانصاف مفقودة، الأمر الذي تجلى في 2011، حين استوعبت الساحات النطيحة والمتردية ممن كان جزءاً أصيلاً في فساد النظام، ولم يكن الثوار منصفين في مبالغتهم بالعداوة ضد اسماء وشخصيات محددة، كما لم يكونوا منصفين في مبالغتهم بالتسامح مع اخرين كانوا اكثر فساداً في ذات النظام الذي طالبوا باسقاطه.
وللأسف فان انعدام الحكمة أيضاً يأخذ الأخطاء نحو التكرار، وهو مايحدث اليوم من مبالغة في العداء للشرعية السياسية، كنظام حكم، والتقليل من أهمية أي مبادرة او سلوك إيجابي اوخطوة اصلاحية من قبلها.
وإحياء للانصاف الذي تغيّب أكثر مع الحزن والغضب من الحرب، يضع السؤال ذاته، أي عاقل يقبل توريط اسمه وتاريخه في تولي مهام سياسية وإدارية لبلد تخوض حرباً وتتقسم وتتشكل حسب خارطة إقليمية؟ أي عاقل يقبل أن يتقلد منصباً او يتحمل مسؤولية مهام في هذا البلد؟ ومن ذا الذي يخاطر بالزيارات الميدانية للمحافظات التي يقال انها محررة إلا من تنظيم "القاعدة" ورفض الأهالي هناك لكل القيادات السياسية؟ أي سياسي عاقل يقبل ان يتحدث عن الوطن في ظل انهياره كقيمة في نفوس الناس؟ وأي سياسي عاقل يقبل التحدث عن احتياجات الناس في ظل معاناتهم وسخطهم ومعارضتهم ومهاجمتهم لكل من يتحدث باسمهم؟، ألا يستحق سياسي كهذا تقديراً لهذا التماسك الذي يبديه للجماهير؟
هناك نماذج تقدم خيراً لهذا البلد ولا تحصل على تقدير يرتقي لمستوى عطائها، وبالمقابل هناك من يقدم شراً، وهم اكثر، ولكن مع الأسف يحصلون على تقدير غير مستحق بل ومبالغ.
وبالتوقف أمام الأحداث الأخيرة التي تشهدها المحافظات الجنوبية (كنموذج)، هل يمكن لهذا الشعب التجرد عن غضبه وخلفياته الملغمة بالضغينة وتقييم مايقوم به رئيس الوزراء في الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، احمد عبيد بن دغر؟ هل مايقوم به ينفع او يضر؟ يبني او يهدم؟ هل يمكن الوقوف على ما يقدمه الرجل دون اللجوء لأنسنته او أبلسته؟
قد تُتهم نوايا الشرعية من زيارات بن دغر الميدانية للمحافظات وتقديم الأمل وتطبيع الحياة، ولكن على كل حال هل يعقل أن نرفض ما هو جيد على أرض الواقع لمجرد شكوك او توقعات؟، وتذكيراً بمدى مأساوية التجربة اليمنية في اعتماد الشكوك اوالاخذ بالنوايا، بدلاً عن التعاطي مع الوقائع العملية، يكفي هنا استرجاع ماكان يقال انها نوايا جماعة "أنصار الله" في تخفيض الجرعة ومكافحة الفساد وتطبيق مخرجات الحوار الوطني، وما كانت تترجمه الجماعة من سلوك عملي أدى إلى إدخال البلاد في دوامة الافلاس والفساد والقتال.
واستكمالاً للحديث عما حققه بن دغر، هذا الذي لا يزال يُشيطن حتى اللحظة، سنجد انه حتى على مستوى الاحقاد التاريخية، لدى بعض القوى والافراد في المحافظات الجنوبية ضد حزب المؤتمر الشعبي العام، والذي يُشيطن هو الأخر، استطاع الرجل تقديم الحزب بوجه أخر للجنوبيين، متواضعاً بسيطاً يشبه بساطتهم، وهذه ميزة أخرى تحسب له، فلم يعد المؤتمر الشعبي حزباً مرفوضاً هناك، وهنا يتأكد سوءة التعميم الذي يمارسه اليمنيون ضد بعضهم، وضد قياداتهم تحديداً، والتطرف في أبلستهم او انسنتهم حسب الأهواء والعواطف والتجارب الفردية.
مايقدمه بن دغر للمحافظات التي يملك زمام أمرها، وبالأخذ في الاعتبار كافة الظروف والضغوط التي تفرضها الحالة المحلية والدولية على اليمن، يستحق التقدير والمساندة، والبناء على ذلك جسور سلام، والتعلم من الأخطاء، فلا حرب ستنتهي في ظل الإقصاء، ولا سلام سيحل مع كل هذا التعصب في انكار ايجابيات او تبرير سلبيات القيادات.