بقلم: نجلاء القصيص
اتّساعُ رقعةُ الصمتِ حولَها في متاهاتِ الليلِ الطويلِ جعلَها في حيرةٍ من أمرِها .. سنوات مضتْ منذُ كانتْ تكتبُ مذكّراتها وتخبئها في أزقة أيامها المتعرجةِ دون أنْ يشعرَ بها أحد .. الأحداثُ تمرّ أمامَها في طوابيرَ مزدحمةٍ بشكلٍ ملفت.
لا تزالُ تتذكّرُ أولَ يومٍ التحقتْ فيه بالمدرسةِ؛ كانَ الصباحُ مضيئًا رغمَ أنّ الشمسَ لم تشرقْ بعد. سارتْ في طريقِها دونَ أنْ يفهمَ تجلّياتها الطفوليةَ أحدٌ؛ سعادتها بلبسِها الجديدِ لا توصفُ .. شاهدتْ حركات الأطفال وتبادرَ إلى ذهنِها أنّهم يلعبون، بينما كانوا يؤدونَ الطابورَ الصّباحيّ.
وقفتْ بإهابها الطّفوليّ وقوامِها المعتدلِ الصغيرِ بين حشدِ الصغارِ المنتظمينَ في الطابورِ،
وبعدما ساروا باتّجاهِ فصولِهم، ظلَّتْ في مكانِها دونَ حراكٍ تنظرُ إليهِم في دهشةّ حتى ابتلعتْهُم الأبوابُ.
صوتُ المُعلِّمة أفزعها: هيا يا صغيرتي فلتذهبِي لتجلسي بين أصدقائِك.
- حسنا.
وسارتْ خلفَها وجسدَها يرتعشُ وبصرَها يغوصُ في أوجه تحبسُ أنفاسَها خوفًا وأدبًا.
الصورُ تتزاحمُ أمامَها فأحداثُ حياتِها تفتحُ شهيتَها لالتهامِ المزيدِ مِن الذكريات .. على مقاعدَ الدراسةِ الثانويةِ، موقفٌ برزَ جليًّا؛ جعلَها تضحكُ بصوتٍ مرتفع، خشيَتْ أنْ يسمعَها الجيرانُ فيتّهمونَها بالجنون .. مالتْ برأسِها لتتلصَّصَ على دفترِ صديقتِها وتخطفُ بعضَ الإجابات، لكنّ مراقبَةَ القاعةِ ضبطَتها بالجُرمِ المشهودِ، كما وصفَتْهُ آنذاك.
وفي يومِ إعلانِ النتيجةِ ظلّتْ تذرعُ حُجرتَها ذهابًا وإيابًا، ويدها على قلبِها، فلا بدّ أنّ مادةَ الرياضياتِ ستلتهمُ جهدَ عامٍ مضى وتجعلُها تعيدُ سنةً دراسية.
فإذا بصوتِ أخيها يعلو ويعلو ليصلَ إليها مِن الشارعِ مبشرًا لها أنّها نجحتْ؛ لم تسعْها الدّنيا مِن الفرحةِ، ركضتْ تتَّصلُ لتتأكّدَ مِن الخبرِ.
اعتدلتْ في جلستِها، تلفحُها نسماتُ الهواءِ الباردة، فتداعبُ شعرَها الأسودَ، وروحَها الهائمةَ حققتْ في الرؤى والأحلامِ.
الجامعةُ محطةٌ ليستْ لتلقّي العلوم فقط، بل هي مرفأٌ الصداقاتِ والمغامرات .. عاشتْ تفاصيلًا لم تنتهِ وقصةً فاشلةً لم يتبقَ منها الآن سوى وردةٍ، وقارورة عطرٍ نصف فارغة، وصورة لم تكتملْ ملامحها بعد!.
اليومُ بعدَ كلِّ تلكَ السنوات تعيشُ وحيدةً على أملِ أنْ يفتحَ قلبَها وعدٌ قادمٌ مِن مجهولٍ لا تعي عنه شيئًا سوى ذلكَ العالَمِ الضّبابيّ الهشّ والصباح المكتنز بروائحِ الذكرى، تسيطرُ عليها رغبة التعرفِ على عالَمِها المجهولِ وطريقِها المتشعّبِ في دروبٍ كثيرةٍ، يتلاشى ذلكَ الخوفُ الذي يحتلّها مِن زمنٍ طويل، تشعرُ بلذّةِ الانتصارِ لأولِ مرّةٍ في حياتِها، تأخذٰ مذكّراتها التى لمْ تجرؤْ على تمزيقِها من قبل؛ تشعلُ عودَ ثقابٍ وتضرمُ النارَ فيها وتعودُ للاستماعِ لصوتِ الرّيحِ في ليلّ موحشّ ينذرُ بصباحاتٍ مجهولةٍ وحياةٍ نائيةٍ تلهو على أشجانِ قصصِها التي لا تنتهى.