تعد مهنة الاستخبارات عبر التاريخ والثقافة الأميركية من الملفات المفعمة بالأوراق المختلطة. فلقد كانت في خدمة المؤامرات، والعبقرية، والبطولة، والعمليات السرية الذكية، والأدوات المبهرة للعقول، الأمر الذي يجعلها من محاور الترفيه ذات الشعبية الكبيرة.
ومع ذلك، فمهنة الجاسوسية لها جانبها المظلم القاتم: فهي عرضة دوماً للفشل الذريع القاسي والعثرات الأخلاقية الكثيرة، فضلاً عنذ الفضائح الكبيرة التي هزت مختلف وكالات الاستخبارات في السنوات الأخيرة التي تنطوي على وقائع التعذيب الوحشي وعمليات المراقبة السرية.
ولنتصور شخصية جيمس بوند وجايسون بورن في مواجهة التعذيب بالإيهام بالغرق وأوامر التنصت من دون رقابة.
والتحدي الذي يضطلع به «متحف الجاسوسية الدولي» الجديد، المقرر افتتاحه الأحد المقبل في مبنى مميز من الصلب والزجاج بالقرب من «ناشيونال مول»، يكمن في جمع كل تلك الموضوعات المختلفة والمتباينة تحت سقف واحد. كان على أمناء المتحف أن يضعوا في اعتبارهم زيارة الأطفال من أبناء 8 سنوات فقط، وكذلك كبار السن من المتقاعدين المتجهمين، والسائحين الذين يتلقون مفهومهم الخاص عن عالم الاستخبارات من فيلم «الجاسوس الذي أحبني» لشخصية جيمس بوند، فضلاً عن الزيارات النقدية لأعضاء مجتمع الاستخبارات الأميركية من وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي، وكل الزوايا المظلمة لأسرار أمن الدولة. وعلى وجه الإجمال، فإن المتحف الجديد، الذي بلغت تكلفة إنشائه 162 مليون دولار من التبرعات الخاصة وسندات البلدية، يضطلع فعلاً بوظيفة رائعة.
فهو يحمل صبغة أكثر في جديتها وواقعيتها من «متحف التجسس» الأصلي، الواقع على مسافة ميل واحد وتأسس على أيدي الشخص نفسه الذي غطى بأمواله معظم تكاليف المتحف الجديد، وهو ميلتون مالتز، رجل الأعمال الرائدة في الإذاعة والتلفزيون. وأثناء عمله في الفترة بين عامي 2002 وحتى 2018، حاز المتحف القديم على شعبية كبيرة، وتحول إلى ما يشبه التجمع المركزي للمؤلفين، والمتحدثين حول شؤون التجسس، ولكن بعض المعروضات كانت عادية وربما سطحية.
أما معروضات المتحف الجديد فإنها تستخدم كل خدعة تكنولوجية ممكنة في مجال المتاحف الحديثة للتفاعل المباشر مع الزائرين. وهي مصممة أيضاً لإبراز الموضوعات المعقدة بطريقة تجذب وتشجع التفكير النقدي والمناقشة على نحو مدروس. والمتحف الجديد غني بالقطع الأثرية والفنية التاريخية، والاختبارات التفاعلية، والأفلام القصيرة الأصلية.
وما يثير الإعجاب، أن «متحف الجاسوسية الدولي» الجديد يعبر عن أكثر الحلقات إيلاماً وحزناً في تاريخ التجسس الأميركي الحديث. فهناك غرفة مخصصة بالكامل لعرض أساليب الاستجواب والتعذيب الحديثة وبعض من ملامحها التاريخية (جورج واشنطن اتخذ موقفاً صلباً من إساءة معاملة الأسرى البريطانيين)، والعرض الفعلي للإيهام بالغرق، وسيلة التعذيب سيئة السمعة التي استخدمت لدى محاكم التفتيش، ولدى نظام «بول بوت» في كامبوديا، وبواسطة ضباط الاستخبارات الأميركية ضد الإرهابيين المشتبه بهم من أعضاء تنظيم القاعدة بين عامي 2002 و2003. ومن خلال مقاطع الفيديو المصاحبة، يدافع اثنان من مهندسي «أساليب الاستجواب المحسنة» لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عن تلك الأساليب ويصفونها بالضرورية والفعالة، في حين يرفضها محامٍ عسكري، ومدرب بالقوات البحرية الأميركية وغيرهما، ويصفانها بأنها عديمة الفائدة وتعتدي بشكل فج وصارخ على القيم الأميركية المتحضرة.
وفي غرفة أخرى، مخصصة للسرية والانفتاح، كان توماس دريك من بين المتحدثين في لقطات سريعة، وهو الضابط السابق لدى وكالة الأمن القومي الأميركية الذي حوكم لأجل تسريبه معلومات بشأن أحد برامج الوكالة الفاشلة. وكذلك بن ويزنر، المحامي الأميركي المختص في الحريات المدنية الذي يعتبر المستشار الخاص لإدوارد سنودن، المقاول الأميركي الأسبق لدى وكالة الأمن القومي الأميركية، الذي أفصح للصحافيين عن مئات الآلاف من الوثائق السرية. وهناك آراء معروضة لكبار مسؤولي الاستخبارات، غير أنهم لا يهيمنون على المناقشات. ويلقي المتحف نظرة صريحة كذلك على إخفاقات أجهزة الاستخبارات، ويفسر التقديرات الخاطئة ذات الآثار الكارثية بشأن أسلحة الدمار الشامل في العراق، ويقارن بين الهجوم على ميناء بيرل هاربور وهجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) بطريقة واعية مستنيرة. وهناك مجموعة مريعة من الغرف التي تصور برلين الشرقية باعتبارها مجتمعاً خاضعاً للمراقبة والرصد خارجاً عن السيطرة.
تقول آنا سلافر، نائبة رئيس المتحف لشؤون المعروضات والبرامج: «نغطي هنا الجانب المظلم. ففي المتحف القديم، لم نكن نتصدى لما يثير الجدل. بل كان متحفاً خفيفاً. وباعتبار الجدال الشرس والمآزق الأخلاقية التي خرجت إلى الملأ منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، فإن مثل تلك المقاربة اللطيفة إلى عالم الجاسوسية والاستخبارات لم يعد يمكن الدفاع عنها».
وبطبيعة الحال، إذا كان المتحف القديم خفيف المحتوى والطرح، فإن المتحف الجديد ليس ثقيلاً بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. هناك المئات من الأدوات من مجموعة قطع الجاسوسية الفنية غير المسبوق عرضها والمملوكة إلى كيث ميلتون، المؤرخ الأسبق لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، الذي تبرع بمجموعته الخاصة لصالح المتحف. وهناك كاميرا سوفياتية مخبأة في صندوق نظارات، ورسالة ميكروفيلمية مصغرة من ألمانيا الشرقية مخبأة في تجويف ضرس بشري، وسترة امرأة حامل مزيفة مخصصة للجاسوسات من عميلات الاستخبارات الأميركية. ويمكن للزائر الانتقال بين مختلف منازل التجسس في الثقافات الشعبية، غير أن القصص الخيالية ليس لها مكان بين أروقة المتحف.
يقول ألكسيس ألبيون، كبير أمناء المتحف، الذي كان من أعضاء لجنة التحقيقات في هجمات الحادي عشر من سبتمبر ومن موظفي وزارة الخارجية الأميركية السابقين، أنه بعد التشاور مع مجلس المؤرخين قبل نحو 5 سنوات، قرر المصممون تلاوة قصص أقل عن عالم الجاسوسية ولكن بعمق أكبر.
وأردف ألبيون يقول: «لا ينبغي أن تكون متحذلقاً، ولكنك تريد من الناس أن يفهموا ما الذي يدور بشأن هذا العمل. والناس يعتقدون أن الجاسوسية عمل مثير وممتع ومفعم بالمرح. ولكنه ينتهي نهاية مفجعة في بعض الأحيان. ودائماً ما نعتقد أنه من الرائع فعلاً أن يخرج الناس من المتحف وهم يقولون: كلا، لا أستطيع فعل ذلك أبداً».
واتساقاً مع لفظة «الدولي» الملحقة باسم المتحف، فإنه يسعى إلى التوسع لما وراء الخبرات الاستخبارية الأميركية والبريطانية. ومن بين الجواسيس المذكورة قصصهم بالتفصيل هناك جواسيس من الصين، وروسيا، وإسرائيل. ويحكي الجهادي الدانماركي السابق، مورتن ستورم، حكايته المرعبة حال اختراقه صفوف تنظيم القاعدة في اليمن.
هناك بعض الأفلام التي أنتجت بشأن أعمال التحليل الاستخباري. ولكن المتحف تمكن من طرح هذا الأمر بشكل حيوي وواضح في الحياة مع عرض مميز للألغاز المحيرة التي يواجهها المحللون في الاستخبارات الأميركية في نهاية مطاردة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن: هل كان الرجل الذي يختبئ خلف أسوار ذلك المنزل في أبوت آباد بباكستان هو زعيم القاعدة حقاً؟ أم كان منزلاً يضم أحد كبار المجرمين، أم مهرباً للمخدرات، أم رجل أعمال منعزلاً؟ ويشاهد الزوار مايكل موريل، النائب الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية يعرض الحقائق المعروفة عبر شريط للفيديو. وهناك نموذج للمنزل في أبوت آباد يوضح القرائن والأدلة: الشرفة المحاطة بالأسوار العالية، والقمامة التي تُحرق بدلاً من إخراجها من المنزل كما هو معتاد، والرجل الطويل الذي يظهر بين الفينة والأخرى في فناء المنزل.
وفي محطة أخرى، يتسنى للهواة تقييم مواقع التواصل الاجتماعي لإرهابي مشتبه فيه، ويجربون حظهم في مواجهة التحديات اليومية لمكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية: هل الشخصية مجرد رجل حالم وثرثار؟ أم هو فعلاً يشكل تهديداً عنيفاً؟
وفيما يزيد على 20 عرضاً تفاعلياً، يمكن لكل زائر، يحمل بطاقة هوية إلكترونية، اختبار مهاراته في مهنة الجاسوسية. وفي نهاية الجولة - التي تستغرق نحو ساعتين ونصف الساعة - يحصل الزوار على ما يشبه بطاقة التقرير بشأن قدرتهم على العمل في مختلف التخصصات الاستخبارية. ويمكنهم المتابعة عبر الموقع الإلكتروني لمزيد من المعلومات المفصلة لاحقاً.
بعض الناس سوف يعتبرون المتحف مريعاً في حين أن أناساً آخرين سوف يعتبرونه لطيفاً. والمتحف، الواقع في منتصف المسافة بين «ناشيونال مول» والواجهة البحرية لواشنطن، يسعى لخدمة كل الزائرين، محاولاً أن ينال سمعته كوجهة سياحية أساسية لآلاف الزائرين من السياح الذين يفدون إلى العاصمة الأميركية في كل عام. وفي حين أن المتحف هو منظمة غير هادفة للربح، فإن الزيارة إليه مكلفة بالنسبة إلى المتاحف الجديدة الأخرى، إذ يبلغ سعر التذكرة الواحدة 24.95 دولار للبالغين (مع خصم دولارين للحجز عبر الإنترنت)، مع خصومات أخرى لكبار السن، والعسكريين، والأطفال.
كتب آلان دبليو دالاس، أطول مديري وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بالخدمة، يقول بعد تقاعده عن العمل في كتابه لعام 1963: «يعد عالم الاستخبارات أقل المجالات فهماً على العامة وأكثر المهن ذات الصورة المشوهة لدى الجميع». وفي واقع الأمر، بعد وفاة دالاس منذ عدة سنوات، في منتصف سبعينات القرن الماضي، ساعدت لجنة تشيرش بمجلس الشيوخ الأميركي الرأي العام على تفهم بعض ما جرى على أيدي الوكالة في عهد دالاس – حفنة من خطط الاغتيال، وتجارب المخدرات، والتجسس الداخلي.
ومن شأن «متحف الجاسوسية الدولي» الجديد أن يمنح الزائرين والسياح بضع ساعات مفعمة بالإثارة والمتعة والروعة، ولكنه سوف يساعد المواطنين الأميركيين كذلك على فهم ما تضطلع الأجهزة السرية بعمله باسمهم وبأموالهم.