انتقل الاهتمام في الأراضي الفلسطينية من أحداث غزة، والتصعيد إثر نقل السفارة الأميركية إلى القدس، إلى صحة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، والمرحلة الضبابية التي تطل على الساحة الفلسطينية، وسط تكهنات بأن الوضع الصحي للرئيس أبومازن يجعله على أعتاب مرحلة لن يكون قادرا فيها على ممارسة مهامه، ما يعقد أكثر الملف الفلسطيني المثخن بالانقسامات والأزمات والعقد.
قلق فلسطيني
بدأ الوضع الصحي لعباس يتدهور منذ ثلاث سنوات تقريبا، وعاش خلال تلك الفترة انتكاسات صحية متزامنة ودخل بسببها للمستشفى أكثر من 7 مرات. وأصاب وتكرار دخوله المستشفيات الشارع الفلسطيني بقلق كبير. ورغم أن الروايات الرسمية عن الحالة الطبية للرئيس الفلسطيني تدعو إلى عدم القلق وأن لا خطر على حياته، إلا أن عمر أبومازن المتقدم (83 عاما)، كما تكرر دخوله إلى المستشفيات (المرة الثالثة على التوالي في ظرف أسبوع)، يرفعان من مستوى القلق على صحة الرئيس كما على مستقبل السلطة الفلسطينية من بعده.
ودخل الرئيس الفلسطيني إلى المستشفى الأحد، فيما أعلنت إدارة المستشفى “أن لا وقت محددا لمغادرته” مؤكدة أنه في صحة جيدة. وأعلنت متحدثة باسم المستشفى أن عباس في حالة جيدة ويخضع للعلاج من آثار عملية صغيرة في الأذن أجريت له الأسبوع الماضي.
وقلّل المسؤول الفلسطيني البارز صائب عريقات مساء الأحد من شأن المخاوف بشأن حالة الرئيس الفلسطيني. وقال عريقات إن “الرئيس يعاني من التهاب في الأذن تطور بعد العملية التي قام بها مؤخرا”.
لكن، تفشل هذه التطمينات في تبديد القلق حول ما يجري في الساحة الفلسطينية، في وقت تشهد فيه البلاد تطورات خطيرة، على خلفية نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وأحداث غزة، كما الاحتقان الشديد والانقسام بين الأطراف السياسية، سواء داخل حركة فتح أو بينها وبين حماس وبقية الفصائل السياسية، والذي ألقى بظلاله على مساعي المصالحة. وتقول مراجع فلسطينية متابعة إن الوضع السياسي للسلطة الفلسطينية كما عملية انتقال السلطة أمر غير منظم وغامض الملامح ولا تحضيرات قانونية له.
وفاز عباس بفترة ولاية مدتها أربع سنوات في عام 2005، لكنه ظل في منصبه في غياب الانتخابات. ويقول عباس إن الانقسام بين حركتي فتح وحماس التي تسيطر على قطاع غزة جعل الانتخابات مستحيلة من الناحية السياسية.
وقال المحلل السياسي محمد مشارقة لـ”العرب” “إن هناك مبالغات حول تداعيات مرض عباس، الحالة الصحية له طبيعية في ظل ظروف سنه”. وأضاف “لكن لو حصل شيء، فإنه ستكون هناك تعقيدات في مسألة الوراثة، إذا تم تعطيل المجلس التشريعي، وفي هذه الحالة قد تؤول الأمور إلى صائب عريقات باعتباره سكرتير اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، لأنه في حالة غياب المجلس التشريعي تصبح المنظمة صاحبة الولاية على السلطة الفلسطينية”.
ووجد قادة حركة فتح أنفسهم مجبرون على عقد اجتماعات داخلية طارئة لبحث تداعيات طول غيابه، واستبعدوا فكرة الالتزام بالدستور أن من يخلفه رئيس المجلس التشريعي “الحمساوي”، لأن المجلس معطل منذ سنوات وبعض أعضائه في السجون، ومنهم من لقي ربه.
وتكمن الأزمة في أن نخبة صغيرة من قيادة فتح، هي من ستقرر خليفة عباس، وليس الشارع الفلسطيني، وفي ظل غياب المؤسسات الوطنية، يصعب التوصل إلى حل مرض للجميع، حول معضلة القيادة، بل سوف تظل هذه المعضلة مدعاة للنزاع حتى تظهر مؤسسات وطنية، وهذا مستبعد للغاية بالنظر إلى الانقسام الحاد بين فتح وحماس.
وأوضح سمير غطاس، مدير مركز مقدس للدراسات السياسية والإستراتيجية، لـ “العرب”، أن أي صراع داخل فتح على الزعامة يعني المزيد من التشرذم.
ويرى محمد مشارقة “أن وضع السلطة صار في سياق جديد اليوم، في ظل الانقسام والمواجهة مع حركة حماس، وبعد استبعاد مسألة القدس عقب قرار ترامب باعتبارها عاصمة لإسرائيل، انتهى عمليا حلم الدولة الفلسطينية، وصرنا نتحدث عن حكم ذاتي على جزء من الضفة الغربية التي تسيطر إسرائيل على ملف الأمن وكل مفاعيلها الأخرى، ومن ثم فأي صراع بين الكبار في فتح ما بعد عباس سيكون تنافسا على كعكة فاسدة لم يبق منها شيء”.
وترى بعض المراجع الفلسطينية المتابعة أن النظام السياسي الفلسطيني بات رخوا منذ الانقسام بين حركة فتح وحركة حماس، وبالتالي بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
وتضيف أن الانقسامات التي شهدتها السلطة الفلسطينية منذ عقد المؤتمر العام الأخير لحركة فتح عام 2016 ومنذ عقد المجلس الوطني في نهاية أبريل الماضي فاقم من درجة التفتت والتشظي ورفع من منسوب الشك وعدم اليقين في مستقبل السلطة الفلسطينية كمرجع حاكم يمثل الفلسطينيين في العالم.
وتلفت مصادر فلسطينية مطلعة في رام الله إلى أن عباس عمل في السنوات الأخيرة على تكثيف السلطات في يده بحيث قضى على كافة تيارات وشخوص الاعتراض والتباين.
وتضيف المصادر أن عباس استطاع تحويل حركة فتح من حزب السلطة إلى “حزب أبومازن”، وأنه نجح في مأسسة هذا الأمر من خلال المؤتمر العام الأخير لحركة فتح والذي أقصى خلاله تيارات متعددة.
خليفة عباس
يستغرب المراقبون عدم وجود حراك عربي وخارجي لتنظيم خلافة عباس، ما يطرح أسئلة حول ما يخطط لهذه السلطة كما للوضع الفلسطيني برمته على ضوء ما يحكى عن صفقة القرن التي مازال إعدادها جاريا وفق مصادر أميركية مطلعة.
ويعيد بعض الخبراء أمر ضبابية خلافة عباس إلى نجاح عباس نفسه في إقفال الطريق على أي محاولات لإدخال تعديلات على طبيعة السلطة وسبل الحكم داخلها.
وكانت الرباعية العربية، المشكّلة من السعودية ومصر والأردن والإمارات، سعت إلى ترتيب البيت الفتحاوي من خلال مصالحة عباس مع القيادي الفتحاوي محمد دحلان كمقدمة لإعادة ترتيب الوضع الداخلي لفتح وبالتالي للسلطة الفلسطينية في مواجهة الحالة الحمساوية في قطاع غزة. لكن، أقفل عباس الباب أمام تلك المساعي.
وطالت عملية الإقصاء خصوم عباس داخل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وفي مقدمهم ياسر عبدربه أمين سر اللجنة سابقا والذي لم يدع إلى أعمال المجلس الوطني الأخير.
ورأى محمد جمعة، الباحث في الشأن الفلسطيني بمركز الأهرام للدراسات السياسية، أن غياب الرجل الثاني القوي في السلطة الفلسطينية، سيجعل من خليفة أبومازن شخصية ضعيفة للغاية”.
وأضاف لـ”العرب” “لا بد من وجود حضور مصري وعربي لترتيب المرحلة، لأنه من الصعب وصول قيادة جديدة لفلسطين دون أطراف موافقة عربية، وإذا تركت الساحة أمام قادة فتح لتقرير مصير الحركة ومنظمة التحرير والسلطة، فإن ذلك سيدفع إلى صراع شرس بين قامات كبيرة”. غير أن دبلوماسيين عربا سابقين يرون أن العالم لم يعد مهتما بهوية الشخص الذي سيخلف عباس، وربما أن الأطراف الدولية المعنية بالشأن الفلسطيني واثقة من أن الدائرة المحيطة بالرئيس الفلسطيني ستنجح في اختيار شخصية تمثل مصالحها على رأس السلطة الفلسطينية.
وكانت بعض الترجيحات تحدثت عن إمكانية تبوء محمود العلول، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، والذي قيل إن عباس اختاره نائبا له في قيادة حركة فتح لمنصب رئيس السلطة. وينافس العلول في هذا المنصب اللواء جبريل رجوب وهو زميل للعلول داخل اللجنة المركزية ومن القيادات التي لطالما تردد اسمها لخلافة عرفات.
ولا يغيب اسم القيادي الفتحاوي زعيم تيار الإصلاح في حركة فتح محمد دحلان عن لائحة المرشحين لخلافة عباس على الرغم من عملية الإقصاء التي تعرض لها من قبل النظام السياسي الفلسطيني بقيادة عباس.
ويثار دائما اسم القيادي الفتحاوي الأسير مروان البرغوثي كخليفة محتمل للرئيس الفلسطيني. فالرجل يحظى بإجماع داخل صفوف حركة فتح كما داخل الوجدان الفلسطيني العام كما أنه شخصية لا تعارضها حركة حماس، لكن، هذا الأمر يبقى مستبعدا، فالمسألة تحتاج إلى تدخل دولي لدى إسرائيل للإفراج عن البرغوثي وهو أمر لا يبدو واردا.
وفي المقابل، تلفت بعض المراجع إلى حظوظ ناصر القدوة في تبوء المركز الأول على رأس السلطة. وتقول إن القدوة، الذي قدم استقالته حديثا من عضوية اللجنة المركزية لحركة فتح، يحظى بسمعة طيبة لدى الرأي العام الفلسطيني كما لدى القيادات الوسطى والعليا لحركة فتح، كما أنه من الشخصيات المحايدة والتي لا يعرف عنها انتماؤها إلى الاصطفافات المتنافسة.
والقدوة هو ابن شقيقة الرئيس الراحل ياسر عرفات وكان يشغل في عهده منصب مندوب فلسطين في الأمم المتحدة كما شغل لاحقا منصب وزير الخارجية. وبحكم هذه المناصب كما مناصبه الدبلوماسية التي شغلها لدى الأمم المتحدة (لا سيما في سوريا وليبيا) فإن المنابر والعواصم الدولية تعرفه، ما يرفع من حظوظ قبوله دوليا في حال النجاح في التسويق داخليا.
ولا يستبعد متابعون إمكانية حدوث تغييرات طارئة في المشهد الفلسطيني، إذا بقي الرئيس عباس لفترة مقبلة دون ترك السلطة. ودعم سمير غطاس هذا الرأي بتأكيده أن “هناك معلومات عن قرب إجراء تغييرات تضمن عدم تصارع السلطات إذا رحل الرئيس، وسيظل الخطر في حماس، لأنها قد تعيد سيناريو عام 2007، بمحاولة فرض نفسها بقوة”.